اختبار الإنسانية

بقلم:  د/ حمادة إسماعيل شعبان

كثيرًا ما تحدثت في مقالاتي وكتاباتي بألم وحزن عما يحل باللاجئين السوريين كل يوم بل وكل ساعة من مشاكل كثيرة في البلدان التي هاجروا إليها وخصوصًا الدول غير العربية، يعانون فيها الفقر والعوز والبحث عن وجود مأوى وسكن وعمل، ومحاولة تعلم لغات لم يخطر ببالهم أنه سيأتي يوم يضطرون فيه إلى تعلمها والتفاهم والتعبير عن مشاعرهم بها.

هذا إضافة إلى آلام الغربة والشعور بالحنين إلى الوطن، والرغبة الجامحة في العودة إليه، ووطأة ترابه، والعيش فيه، إذ أنهم يرون في العودة إلى بلادهم الخلاص من كل ما يتعرضون له من مشكلات أهمها الشعور بالغربة وكونهم ضيوف ثقال على الدول التي يعيشون فيها، خصوصًا وأن الكثير من حكومات الدول التي بها لاجئين سوريين قد صرحوا بذلك علانية وفي وسائل الإعلام المختلفة، بل وأصبح التخلص من اللاجئين قضية مهمة تضعها بعض الحكومات على جدول أعمالها، فتعقد لها الندوات والمؤتمرات، وتتحدث عنها في كل ملتقى أو مؤتمر دولي قد لا يكون له أي علاقة من قريب أو بعيد بقضية اللاجئين .

بل قد يكون مؤتمرًا اقتصاديًا ثم بغرابة شديدة نجد قضية اللاجئين أقحمت فيه، وقد دعا كاتب هذا المقال مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة احترام إنسانية اللاجئين وتجنيب لغة السياسة والمصالح في التعامل مع قضيتهم وتغليب البعد الإنساني في التعامل معهم، فقضية اللاجئين قضية إنسانية في المقام الأول، فلا يصح تسيسها، لأن المتأثرين بسلبياتها شعوب تدفع ثمن أخطاء سياسية متراكمة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ارتكبتها حكومات وأنظمة مختلفة،

بل لم يجني اللاجئون من وراء هذه الأخطاء سوى الفقر والغربة وترك الأوطان والذكرايات والموت إما قتلًا أو غرقًا أو جوعًا، وصدق فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حين وصف مأساة اللاجئين في كلمته التي ألقاها في مؤتمر السلام الذي عُقد في القاهرة في شهر إبريل الماضي والتي قال فيها “هَذَا السَّلام الضَّائع الذي تبحث عنه شعوبٌ وبلاد وبؤساءُ ومرضى، وهائمون على وجوههم في الصحراء، وفارُّون من أوطانهم إلى أوطانٍ أخرى نائيةٍ لا يدرون أيبلُغُونها أم يَحُولُ بينهم وبينها المَوتُ والهَلاكُ والغَرَقُ والأشلاءُ والجُثَثُ المُلقَاةُ على شواطئ البِحار، في مأساةٍ إنسانيَّةٍ بالِغة الحُزنِ، لا نَعْدُو الحَقِيقةَ لَوْ قُلنَا: إنَّ التَّاريخَ لَمْ يَعْرِف لها مَثيلًا مِن قَبلُ”.

نعم إن التاريخ لم يعرف لهذه المأساة مثيلًا من قبل، وأشد ما في هذه المأساة أنها تغذي وتقوي فيروس قسوة القلوب الذي انتشر كالنار في الهشيم في العالم في السنوات الأخيرة، وتقوي في الوقت ذاته جهاز المناعة ضد الشعور والاحساس والألم والحزن بسبب ما يحل بالآخر من مصائب وكوارث، كما أنها تُعري الإنسان أمام نفسه وتُظهر له مدى عنصريته المقيتة التي دون أن يدري وجد نفسه مصاب بها، وغارقًا فيها مع ادعائه عكس ذلك.

وإذا أراد شخص ما أن يتأكد من إنسانيته فليختبر نفسه اختبارًا بسيطًا، فيتخيل أنه أمام حادثي غرق في البحر المتوسط مثلًا، راح ضحيتهما أناس لا يعرفهم وليسوا من بلده، أولهما لقارب يحمل على متنه عددًا من اللاجئين كانوا في طريقهم إلى إحدى الدول الأوربية فرارًا من الحرب والدمار القائم في بلادهم، وثانيهما لسفينة تحمل على متنها عدد من السياح الأوروبيين، خرجوا للسياحة والتنزة بصورة قانونية.

وليُقيّم الشخص حزنه عند سماع خبر غرق هؤلاء جميعًا، وليسأل نفسه هل حزنت على كلا الحادثين، أم على أحدهما فقط دون الأخر؟ فإذا كانت الإجابة أنه حزن على كليهما بنفس الدرجة فليطمأن على إنسانيته، وليعلم أنه لا يزال إنسانًا، أما إذا حزن على واحد دون الآخر فيجب عليه الوقوف مع نفسه، وإعادة تأديبها وتهذيبها واسترداد انسانيتها التي افتقدها دون أن يشعر.

لا ننكر أن الحب والكره والحزن والفرح من الأمور المتعلقة بالقلوب، ومحلهم جميعًا القلوب، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ولا يستطيع أحد أن يعاتب أحدًا على حب أو كره أو حزن أو فرح، لأن الشخص نفسه لا يستطيع منع نفسه عن أي من هؤلاء، غير أن المعاتبة يمكن أن تكون على عدم احترام شعور الآخرين، بأن يُعاتب الشخص مثلًا على إظهاره الفرح أمام شخص حزين، وغيرها من الأمور المشابهة. لذلك قد نعذر السوري في حزنه أكثر على غرق اللاجئين، وقد نعذر الأوروبي لحزنه الأكثر على الأوروبيين.

أما الأجانب الآخرين الذين لا ينتسبون إلى كلا الصنفين ومع ذلك يحزنون على موت فئة دون الأخرى فهم المحتاجون إلى وقفة مع النفس، وإعادة معالجة لقلوبهم التي أصابتها القسوة، وهذا العلاج يكون غالبًا عن طريق الذكر والاستغفار والتعبد وتذكر الموت وتشييع الجنازات وغيرها من الأمور المعروفة.

ومما يؤسف له أن الاجراءات الحكومية في معظم دول العالم أيضًا في مثل هذه الحوادث تساهم في انتزاع إنسانية شعوبها عن طريق الكيل بمكيالين في حوادث الموت والغرق وضحايا الإرهاب، فعندما لا قدر الله يقع حادث غرق أو أي حادث أخر لبعض مواطني دولة من الدول القوية أو التي ليس بها صراعات والذين يعيشون في أمن وأمان ومطمأنين في بلادهم، تقوم الحكومات الأخرى بإجراءات محمودة وواجبة، فتعرب عن حزنها لوقوع الحادث، وتعلن الحداد، وترسل برقيات التعازي إلى الدولة التي تعرض بعض مواطنيها للحادث.

وتتناول وسائل الإعلام المختلفة الحادث بالبحث والتحليل، ويرتدي لاعبي كرة القدم في الملاعب الشارات السوداء ويقفون دقيقة حداد على الضحايا، ويشيع مناخ الحزن بين الجميع. وبهذه الإجراءات يجد المواطنون أنفسهم قد تأثروا بهذا الحادث وقد طبع في أذهانهم، وإذا لا قدر الله وقع حادث مشابه بعد ذلك تحيا في أذهانهم على الفور الحادث السابق، وبذلك نجد أنفسنا أمام دول نعرف تقريبًا جميع ما حل بأهلها وشعبها من كوارث بالرغم من قلتها، هذه الدول هى الدول القوية والمستقرة سياسيًا واجتماعيًا، والقوية عسكريًا واقتصاديًا.

نفس هذه الحكومات عندما تسمع عن حادث غرق أو قتل أو أي كارثة حلت بشعب من شعوب الدول الضعيفة غير المستقرة سياسيًا والتي بها صراعات، لا تقوم بنفس الإجراءات التي اتخذتها قبل ذلك مع الكوارث التي حلت بالدول القوية المستقرة، إنما تُذكر الحادثة أو الكارثة التي وقعت على مواطني أي دولة ضعيفة بها صراع كخبر ضمن نشرة الأخبار، ويتحول الموتى إلى مجرد رقم يُضاف إلى الأرقام السابقة التي تتنافس الصحف والمحطات الأخبارية في دقتها، وتتباهى بإحصائياتها، فلا نرى حزنًا إلا عند القليل.

ولا نرى حدادًا على الإطلاق، ولا نرى شارات سوداء في ملاعب كرة القدم، بل ربما يكون أحد اللاعبين من مواطني الدولة الفقيرة التي وقعت على شعبها أو على عدد منه الحادثة المؤلمة ولا يستطيع هذا الاعب أن يرتدي الشارة السوداء التي ارتداها من قبل على كارثة حلت بمواطني دولة أخرى. فهل الحزن لا يكون إلا على الأقوياء؟ وهل نحن في حاجة دائمة إلى من يُذكرنا بإنسانيتنا؟ وهل إنسانيتنا ضعيفة قد تفقد نفسها داخل عالم مادي لا يُعير المعنويات أي اهتمام؟ نعم إن القلب والروح يحتاجان دائمًا إلى غذاء يُحييهما ويوقظهما ويجعلهما دائمًا في حالة انتباه، وإن الإنسانية في حاجة دائمة إلى الاختبار.