الهجمة الشرسة على شخص الإمام شيخ الأزهر

بقلم- الدكتور علي الأزهري

تابعت هذه الهجمة التي اندلعت منذ عدة أيام تزامنًا مع المجازر التي يُنحرُ فيها إخواننا في بورما، وللأسف وجدت طائفة من الذين يُشار إليهم بالبنان في الثقافة يشاركون عدة صور لتمثال عليه وجه الإمام الأكبر شيخ الأزهر؛ وهو يرفع يديه وجاءوا بكلمات ألقاها الرجل في مؤتمر الأزهر الذي عُقد في الثالث من يناير في مطلع هذا العام الحالي، وكان من جملة كلمات الشيخ : “ إن مجلس الحكماء يعقد على شباب بورما بأن يبدؤا غرس شجرة السلام، وأن يبدأو فى نشر ثقافة المواطنة حتى يقضوا على مفهوم الأقليات، … أيها الإخوَة والأبناء من شعب ميانمار-بحاجةٍ إلى مزيدٍ من القول في بيانِ الخطر الماحق الذي يتهدَّد أوطانكم بسبب من الأزمة التي تدور رحاها في ولاية «راخَيْن»، هذه الأزمة التي تفقد كل مبررات بواعثها: الدِّينيَّة والإنسانيَّة والحضاريَّة أيضًا، وإنها لأزمة غريبة -حقًّا- على شعب ميانمار الذي يضرب بجذور راسخة من قديم الأزمان والآباد في تاريخ الدِّين والحِكْمَة والسَّلام وتَعَلَّم منه الناس الكثير والكثير في هذا الباب، وكانت حضارته وأديانه مشاعل سلام للإنسانيَّة جمعاء، وأنا لا أعرف فتنة أضرَّ على الناس ولا أفتك بأجسادهم وأسكب لدمائهم من القتل والقتال باسمِ الدِّين تارة وباسمِ العِرق تارة أخرى، فما للقتل بُعِثَ الأنبياء وأُرسل المُرسلون ولا للاضطهاد والتشريد جاء الحكماء والمتألهون،… جاء في الأثر: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»، وليس بين المؤمن والكافر إلَّا الدعوةُ بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمةِ الطيبة، ثم تركِ كلِّ واحدٍ منهما حبلَ صاحبه على غاربه. وقد جاء في كتاب رسول الله إلى أهل اليمن: «مَنْ كَرِهَ الإِسْلامَ مِنْ يَهُودِيٍّ أو نَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ»، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ {الكهف: 29}. وإذا كانت الأديان كلها تتبنَّى هذا الأدب الإنساني الرفيع في دعوتها للعلاقة بين المؤمن وغير المؤمن، فهل يُعقل أن تَنْسَى تعاليم الأديان ذلك أو تصادرَه بين أخوة الأديان وما يترتب عليها من حقوق إنسانية وواجبات خلقية! أيها الشباب البورمي بكل أعراقه وأديانه! إنَّ حكمة البوذية والهندوسية والمسيحية والإسلام، التي تزخر بها أرضكم، تناديكم صباح مساء: لا تقتلوا، ولا تسرقوا، ولا تكذبوا، والزموا العفَّة، لا تشربوا المُسكرات، وقد تعلَّمنا في كلية أصول الدين في الأزهر الشريف، ونحن نَدْرُس حكماء الشرق أن البوذية تعاليم إنسانية وأخلاقية في المقام الأول، وأن بوذا هذا الحكيم الصامت، هو من أكبر الشخصيات في تاريخ الإنسانية، وكان من أبرز صفاته الهدوءُ والعقلانية وشِدَّة الحنان والعطف والمَودَّة، وأن كِبَار مؤرخي الأديان في العالَم يصفون تعاليمه بأنها «تعاليم الرحمة غير المتناهية»، وأن صاحبها كان وديعًا مُسالمًا غير متكِّبر ولا متشامخ، بل سهلًا لَـيِّـنًا قريبًا من الناس، وكانت وصاياه تدور على المحبَّة والإحسان للآخرين، وما أريد أن أهدف إليه من وراء هذا السَّرد هو أن مجلس الحكماء يعقد عليكم -أيها الشباب والشابات! -آمالًا في أن تبدؤوا غرس شجرة السَّلام التي تظلل مواطني «راخَيْن» بل مواطني بورما بأجمعهم، وأن تبدأوا في نشر ثقافة المواطنة، حتى تَقْضوا على مفهوم «الأقليات» وما يجره هذا المفهوم البائس من إقصاء وتهميش، ينتهي دائمًا بسفك الدماء وتشريد الأبرياء، وعلينا أن ندرك أن هذه الصورة الشائهة التي تنقلها أجهزة الإعلام: قتلًا واضطهادًا ومطاردة، لم تعد تليق بشعب له تاريخ حضاري عريق كشعب بورما، وأن هذه التفرقة بين المواطنين لن تزيد الأمر إلًّا تعقيدًا…..إلخ

وأخذ هذا الفريق سياسة الاجتزاء وقص الكلام حرفة، فتوقفوا عند قوله الإمام : “إن البوذية دين إنساني وأخلاقي وإن بوذا هو من أكبر الشخصيات في تاريخ الإنسانية، ..”، والحق أن كلمة دين إنساني قد يُطلق ويراد به دين وضعي من اختراع الإنسان، ومسألة أن البوذية ليست دينًا فهذا في اعتقادنا، أما في اعتقاد أصحابه يُمثل دينًا، ولذا يقول د. أحمد شلبي في كتابه “أديان الهند الكبرى” : “ لقد رفع البوذيون “بوذا” بعد وفاته إلى درجة الآلهة، وفسروا عدم تناوله لقضية الألوهية أو التحدث فيها، لكونه هو الإله حسب زعمهم، وعلى هذا الأساس من التبجيل والتعظيم الذي وصل إلى حد التأليه، قبل أتباع “بوذا” كلماته على أنها حقائق لا يتطرق إليها الشك، وهم بهذا حولوا الفلسفة التي جاء بها “بوذا ” إلى مستوى الدين. لقد نسج أتباع “بوذا” حول شخصيته الأساطير بعد موته، حيث زعموا أنه قد تشرف بالنزول إلى الأرض، وأنه تجسد فيه “فشنو” لهداية البشرية وإنقاذها من آلامها وأحزانها، وأنه موجود دائما في هذا الكون، إما على هذه الأرض أو في السماء، ثم أسبغوا عليه صفات الإله الموجود الأزلي الدائم الأبدي، لتصبح البوذية دينًا بعد أن كانت مجرد تعاليم وفلسفة حياة. ويرى بعض المفكرين الغربيين في البوذية دينا، لأنها ترسم الطريق للتخلص من الذنوب، ولأن بها جانبًا روحيًا كما يزعمون، ولأن معتنقيها يمتازون بحماسة قوية لا تتوفر إلا مع الأديان“.

والسؤال لماذا قال لهم شيخ الأزهر البوذية دين؟ وهل بهذا يقرهم على دينهم؟

والجواب سهل يسير إن الله تعالى سمى الكفر دينًا في سورة سماها “الكافرون”، وقال “لكم دينكم ولي دين”، فالكفر دين في اعتقاد أصحابه، والله تعالى لم يقرهم على كفرهم، وإنما قال لكم اعتقادكم وما تدينون به، ولله المثل الأعلى، وشيخ الأزهر هنا يخاطبهم وهم في بلدنا مصر، فهل ينادي عليهم بقوله إنكم كفار على الباطل ولا بد من قطع رقابكم، أم ينادي عليهم بما يعتقدون به وما يدينون به؟ .

والسؤال الثاني : لماذا قال شيخ الأزهر البوذية دين الإنسانية، وبوذا الحكيم الصامت ومن أبرز صفاته الهدوء والعقلانية وشدة الحنان…؟

البوذية ظهرت في شمال الهند، وبالفعل من تعاليم بوذا ما يدل على هذا الأمر، فلقد اعتبر قتل الحيوان خطيئة كبرى، وجرم لا يُغتفر، فقال في وصاياه : “ فليس للبوذي أن يقتل حيوانًا في لَهْوٍ كالصيد، أو في جدٍّ كذَبْحه للأكْل، بل عليه أن يرفقَ بالحيوان ويَعده أخاه في الخَلْق، ولا يراه خلقًا أدنى منه”.

ومن جملة وصاياه أيضًا الوصايا العشر وهي :

جعل منها خمس وصايا للعوام والرهبان وهي : “ لا تقتل، لا تَسرق، لا تزنِ، لا تكذب، لا تتناول مُسكرًا”.

وأما الخمس وصايا للرهبان والتلاميذ فهي : “ 1- لا تتناول طعامًا يابسًا بعد الظهر. 2- لا تَحضُر حفلات الغناء والرقص والتمثيل. 3- لا تَنَمْ على فراش وثير. 4- لا تقبل من أحد ذهبًا ولا فِضَّة. 5- لا تتزيَّن بأيِّ نوع من أنواع الزينة، ولا تَستخدم أيَّ نوع من أنواع الطِّيب“.

وأما مبادىء الحكيم بوذا فجعلها ثمانية مبادىء هي :

1ـ العقائد الصحيحة، ويُراد بها: الإيمان بالحقائق الثلاث الأولى من الأربعة المتعلِّقة بالهمِّ والحزن، 2- الأغراض الشريفة؛ أي: الاتجاه إلى عمل الخير دائمًا، واجتناب الاتجاه إلى الشر والتفكير فيه، 3- القول الطيِّب، ويُراد به حِفظ اللسان من الكذب والنميمة، والسبِّ واستهزاء الناس، 4- العمل الصالح، وهو عمل كلِّ ما ينفع الناس، متضمنًا الابتعادَ عن الأعمال الشِّريرة، كالاعتداء على الأرواح – بشريَّة، أو حيوانيَّة – والأموال والأعراض، 5- اتِّباع خُطة قويمة في الحياة وكَسْب العيش، بمعنى الإحسان إلى الناس، وعدم كسب المال إلاَّ من وجوهه المقبولة في المجتمع، 6- بذْل الإحسان والجُهد الصادق في الأعمال، وغَرْس الاتجاهات الطيِّبة المقبولة، والبُعد عن النزعات الشِّريرة، 7- الاهتمام؛ أي: انغماس الإنسان في عمله، ومتابعة السَّيْر فيه، دون الشعورِ بيأس في الحال، 8- صدق التأمُّل الرُّوحي، وهو التفرُّغ للتبتُّل والرياضة والانغماس فيها، فإن قال قائل فإن بوذا كان كافرًا فقد ادعى الألوهية، نقول له بوذا لم يدع الألوهية قط، ولقب بوذا يُطلقُ على الحكيم أو المستنير أو ذو البصيرة كما ذكر د. حامد عبدالقادر في كتابه بوذا الأكبر،: “دخول كثير من أتْباع البراهمة في البوذية مع بقائهم على البراهمية؛ نظرًا لإعجابهم بالمنهج الأخلاقي عنده”

ويرى بوذا أن هناك قيودًا عشرة تمنع الإنسان للوصول إلى النجاة هي : “ 1- الوهم الخادع في وجود النَّفس. 2- الشك في بوذا وتعاليمه. 3- الاعتقاد في تأثير الطقوس والتقاليد الدينيَّة. 4- الشهوة. 5- الكراهية. 6- الغرور. 7- الرغبة في البقاء المادي. 8- الجهل. 9- الاعتداء الذاتي. 10- الكبرياء”، فإذا حطمها الإنسان وصل للنجاة الحقيقية

وبعد هذا العرض فإن ما يروج الآن للطعن في شخص الإمام لا يرتقي لدرجة النقاش بل للتشهير وتحميل الرجل ما لا طاقة له به، ونسمع متهكمًا ومُعرضًا بشخص الرجل قائلًا بابا الأزهر، وآخر شيخ العسكر إلى غير ذلك مما لا يليق ومقام الرجل، وحسبنا أن العلماء لحومهم مسمومة، والرجل يقف صامتًا لا يرد على هذه التفهات، ولقد رأينا أن اليهود وغيرهم يقبلون أيدي الأساقفة والرهبان، ولا يمكن لأحد أن يتهكم على الراهب أو الأسقف، لكن بعد ما رأينا من ثورات الربيع العربي وتجرأ الأصاغر على الأكابر فنحتاج فعلًا لثورة أخلاقية، وحسبنا أن نذكر بالحديث الذي أخرجه أبو داود الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو –رضي الله عنه-، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :”لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرفَ كَبِيرِنَا”، ولقد قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”: “العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب”. وفي الحديث عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منَّا من لم يجلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه))؛ رواه أحمد والترمذي، وأخذ الصحابيُّ الجليل ترجمان القرآن عبدُالله بن عباس – رضي الله عنهما – بركاب أُبَيِّ بنِ كعب – رضي الله عنه – فقيل له: أنت ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟! فقال: إنه ينبغي للحبر أن يُعظَّم ويشرف.

ولا أعلم لماذا الهجوم على الشيخ، والرجل قال أول من انبرى للدفاع عن قضية مسلمي بورما، وعقد عدة اجتماعات برئاسته كشيخ للأزهر ويترأس هيئة كبار العلماء وأخرج عدة بيانات تندد بما يُفعل بالمسلمين في بورما، وأيضًا آخر بيان منذ عدة أيام فيه يستصرخ العالم أجمع على ضرورة التدخل لوقف بحور الدماء التي تسيل، وأيضًا تشكيل لجنة لمحاكمة هؤلاء الذين يُبيدون المسلمين في بورما، وأن الأزهر عقد معهم لقاءً موسعًا وأخذ عليهم العهود والمواثيق بضرورة وقف نزيف الدماء وأن هؤلاء لم يلتزموا بهذه العهود، وهل أخطأ الإمام عندما نقل ما جاء في الكتب عن حكمة بوذا ومذهبه الأخلاقي؟ أما كان من الأفضل أن يتهمهم بالكفر والإرهاب والتطرف وهو يحاول استمالتهم في ظل صمت العالم كله وهو الذي يتحرك بمفرده؟

وختامًا : ماذا يريدون من شيخ الأزهر أن يفعله؟ الرجل فعل ما بوسعه وما زال لم يتقاعس لحظة في تحمل هموم الأمة، والأزهر لا يملك عصا قوة ولا عصا سحرية يسوق بها العالم، بل يوضح الأحكام الشرعية، ويقيم الحجة، وهذه مهمتنا، وحسبي أن ما قلته لا يزيد مكانة للإمام، وأن ما يقوله غيري من طعن لا يُقلل من مكانته، فهو تاج فوق الرؤوس، وهو أمام المسلمين .