بقلم طارق رضوان رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان
أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش في سبتمبر 2025 تقريرًا جديدًا حول أوضاع حرية التعبير في مصر، ركّزت فيه على ما وصفته بـ”حملة قمع ضد صانعي المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي”.
وأشارت المنظمة بوضوح إلى أن تقديم شخصيات مثل “سوزي الأردنية” و”مداهم” وآخرين إلى القضاء، بتهم تتعلق بـ”انتهاك القيم الأسرية” أو “الإخلال بالأخلاق العامة”، يمثل تقييدًا لحرية التعبير والحق في الخصوصية.
غير أن المنظمة — وهي تكرر هذا الطرح في أكثر من تقرير — تجاهلت أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والاجتماعية، وأن مفهوم “القيم الأسرية” أو “الأخلاق العامة” ليس ثابتًا عالميًا، بل يختلف من دولة إلى أخرى وفقًا لعاداتها وتقاليدها ونظامها القانوني.
فالمعايير التي تُطبَّق في القاهرة أو الرياض أو الدوحة قد لا تكون مطابقة لتلك السائدة في نيويورك أو برلين، ما يجعل المقارنة المباشرة في غير محلها أحيانًا.
لكن اللافت للنظر حقًا هو أن المنظمة، في الوقت الذي تحرص فيه على تسليط الضوء بشكل متكرر على الأوضاع الداخلية في دول عربية، تتراجع لهجتها بشكل ملحوظ عند الحديث عن إسرائيل.
فالحرب التي شنّتها حكومة نتنياهو منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم أسفرت — بحسب إحصاءات فلسطينية ودولية — عن استشهاد أكثر من 64,300 مدني، وإصابة ما يقارب 120 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال.
وإلى جانب ذلك، تعرّض أكثر من مليون ونصف فلسطيني للتهجير القسري، بينما طالت الغارات الإسرائيلية المستشفيات والمدارس والبنية التحتية، في مشهد وُصف بأنه واحدة من أعنف الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
ولم يتوقف العدوان الإسرائيلي عند حدود غزة، بل امتد إلى تهديد مباشر للأمن القومي العربي عبر هجمات متكررة على دول مجاورة، كان آخرها قصف استهدف قطر، ما يعد خرقًا صارخًا للقانون الدولي وانتهاكًا لسيادة الدول.
ورغم كل ذلك، لم نرَ من هيومن رايتس ووتش أو غيرها من المنظمات الكبرى تقارير بنفس القوة والحدة التي اعتادت أن تُسقطها على بعض الملفات العربية، الأمر الذي يفتح باب التساؤل حول ازدواجية المعايير.
إذن لماذا تُبدي هذه المنظمات شجاعة زائدة في تناول قضايا داخلية عربية، بينما تتعامل بـلغة دبلوماسية مترددة عند الحديث عن إسرائيل؟ وهل هذه الازدواجية انعكاس لضغوط سياسية ومالية من قِبل القوى الكبرى التي تسعى إلى حماية تل أبيب من أي مساءلة دولية؟
إن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية. فالدفاع عن حقوق الإنسان يجب أن يكون مبدأً عالميًا يقف إلى جانب الضحايا أيًا كانت هويتهم أو مكانهم، ويواجه الانتهاكات أيًا كان مرتكبها.
وما يحدث في غزة من مجازر موثقة بالصوت والصورة لا يقل خطورة — بل يفوق — أي انتهاك آخر في المنطقة، ومن ثم فإن السكوت عنه ينسف مصداقية الخطاب الحقوقي برمته.
وربما في هذه المفارقة يكمن دافع إيجابي: فازدواجية المعايير يمكن أن تكون جرس إنذار للمجتمع الدولي كي يطالب بميزان واحد للعدالة.
العدالة التي لا تُغفل الجرائم بحق غزة، ولا تُهمل الانتهاكات في مصر أو غيرها، وإنما تتعامل مع كل حالة بالمعايير نفسها.
إن مستقبل حقوق الإنسان لن يُبنى على شعارات جوفاء، بل على إنصاف حقيقي يلمسه الناس في حياتهم.
الشعوب لن تثق بالعدالة الدولية إلا إذا رأت أنها تطبق بلا تمييز، وأنها تضع الاحتلال الإسرائيلي تحت المجهر بنفس القدر الذي تراقب به أوضاع الحريات في أي دولة أخرى.